لا يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب..
و لا حقيقة نتعامل معها و كأنها الوهم مثل الموت!! فليس هناك أمر مؤكد أكثر من
الموت، و مع ذلك لا نفكر أبدا بأننا سنموت، و اذا حدث و فكرنا لا يتجاوز تفكيرنا
وهما عابرا عبور النسيم.
و العكس في حالة الحب، فرغم أن الحب دائما أمر يزينه الخيال و يضخمه الوهم و يجسمه
التصور و تنفخ فيه الشهوات، و رغم أن الحب يشتعل و ينطفئ و يسخن و يبرد و رغم أن
أحواله و تقلباته تشهد بأنه وهم كبير، الا أننا نتعامل معه بالرهبة و التقديس و
الاحترام و الخضوع..و نظل على هذا الخلط و الاختلاط حتى نفيق على الصدمة فنصحو و
نستعيد رشدنا لأيام أو شهور أو سنوات و لكن لا نلبث أن نستسلم الى اغماء جديد.
و سبب الخلط و الاختلاط هو دائما خطأ في النسبة.. فنحن دائما ننسب الجمال الذي
شاهدناه و الحنان الذي تذوقناه الى صاحبته مع أنها ليست صاحبته و لا مالكته.. و لو
امتلكت امرأة جمالها لدام لها.. و لكن الجمال لم يدم لأحد، لأنه منحة و اعارة من
الله بأجل و ميقات و هو قرض يسترده في حينه.. فصاحبه و مالكه هو الله و ليس أي
امرأة.
و كذلك كل ما نعشق من حنان و مودة و رأفة و حلم و كرم كلها خلع و منح و أوصاف
مستعارة من الودود الرؤوف الحليم الكريم.. و هو مالكها بالأصالة.. و نحن نملكها
عنه بالقرض و الاعارة.
و لكن العين التي تعشق الجمال تخطئ نسبته و ملكيته فتظنه لصاحبته فتعشق صاحبته و
تعبد صاحبته.
و هي تظل في هذا الوهم حتى تفيق على القبح يطل من تحت المساحيق و القسوة تظهر من
وراء الأهداب فتصحو على الصدمة و تعاني و تتعذب و تندم و تعتبر و تتوب ثم تعود
فتنسى و تنزلق إلى وهم جديد..
و تلك هي الغفلة المستمرة التي نعيش فيها جميعا.. نفيق منها لحظات لنعود فنغرق في
سباتها من جديد و لا يسلم من هذا البلاء الا نبي معصوم أو ولي عارف يحفظه ربه و
يسدل عليه كنفه.. فلا يرى حيثما تولى الا وجه الله.
(فأينما تولوا فثم وجه الله)
فهو الجمال في كل جميل و هو الرأفة و الحنان و الكرم و الحلم و المودة.. فتلك
أسماؤه تتجلى في أواني الطين و الخزف الشفافة التي شفها الاحساس حتى أصبحت مثل
الكريستال المضيء تماما كما يرى الفلكي نور القمر فيعرف أنه ليس نوره بل نور الشمس
تجلى عن وجهه.
و هكذا لا يرى هذا العارف أينما تولى الا وجه الله.. و هو دائم الهمس الله..الله.. الله.. الله.. الله.. و هو ناظر دائما الى الظاهر و ليس الى المظاهر.. ناظر
الى الله الظاهر دائما في كل شيء.. لا يطرف.. متعلق بالمعاني و ليس بالأواني.
و هو لهذا لا ينقسم و لا يتشتت و لا يضيع في التلفت، و انما هو مجذوب الفؤاد الى
الله على الدوام.
و لكن أمثال هذا الرجل قليل نادر مثل الألماس و اليورانيوم و أمثاله لا يتجاوزون
أفرادا و آحادا بين ألوف الملايين من الحشد المغمى عليه
و هي غفلة عامة غالبة لا ينجي فيها علم و لا ثقافة و لا دكتوراه و لا ماجستير،
فتلك أبواب غرور تزيد من الغفلة.. فنرى العالم يضع علمه في خدمة هواه، و عقله في
خدمة عاطفته، و مواهبه في خدمة شهواته. فتصبح بلواه مضاعفة و صدمته قاصمة للظهر.
و يمضي العمر في سلسلة من الغفلات و الاغماءات مجموعها في الختام صفر، أو هي في
الحقيقة حاصل طرح و ليست حاصل جمع. فمجموعها في النهاية بالسالب و ليس بالموجب
فحياة صاحبها الى نقصان يوما بعد يوم و سنة بعد سنة.. يخرج من وهم الى وهم و من
خدعة الى خدعة.. حاله مثل حال الشارب من ماء مالح، كلما ازداد شربا ازداد عطشا..
لا يحصل على سكينة و لا يبلغ اطمئنانا، و انما هو هابط دوما من قلق الى قلق، و من
تمزق الى تمزق، و من تشتت الى تشتت، حتى تنتهي حياته بلا ثمرة، و ينتهي تحصيله بلا
جدوى.
و تلك هي العقلية الاستمتاعية السائدة اليوم في عالم وثني، أصنامه اللذة و الغلبة
و الهوى.. معبود كل واحد نفسه و كتابه رأيه و دستوره مصلحته.
و الحال في الأمم المتخلفة و النامية أسوأ مما هو في الأمم المتقدمة.. و هي أمم
مجموعها أحيانا ((حاصل طرح أفرادها)) و ليس حاصل جمعهم، لأنهم منفرطون منقسمون
متباعدون كالجزر التائهة في البحر.. يضرب بعضهم بعضا.. و عزمهم مستهلك.. و قوتهم
لا شيء..
يتحدثون عن الوحدة.
و لا وحدة الا بالواحد.
هو وحده الواحد لا اله الا هو. الذي يخرج به كل واحد من شتات نفسه و تخرج به الأمم
من تفرقها و يخرج به العالم من انقسامه.
و القضية بالدرجة الأولى قضية ايمان.
هي قضية رؤية..
كيف نرى العالم..؟
و كيف ننظر فيما حولنا..؟
و كيف نحب..؟
هل نستطيع أن نكون ذلك العارف الذي لا يرى في كل شيء الا الواحد.. و لا يبصر الا
وجه ربه في كل محبوب.
هل يمكن أن نكون مصداق الآية:
(أينما تولوا فثم وجه الله).
و في هذا الاطار نحب و في هذا الاطار نكره.. فنبذل المروءة و المعروف و المودة
للجميع و لا يكون لنا تعلق و لا يكون لنا حب الا الله و بالله و في الله.
ذلك هو الجهاد الصعب.
و لا اختيار..
و لا طريق آخر.
و كل واحد و عزمه.
و كل واحد و همته..
و عبرة كل حياة بختامها.. فلنسارع الى المجاهدة و لنشمر السواعد حتى لا يكون محصول
حياتنا صفرا و حتى لا يمضي بنا كل يوم الى نقصان و حتى لا يصبح كل يوم من أيامنا
مطروحا من الذي قبله.
انما خلق الله الغواية لامتحان القلوب و ليعرف الكبار أنفسهم و ليعرف الصغار
أنفسهم من البداية
د / مصطفى محمود